الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما عرض عليهم التقوى بالرفق، وعلل ذلك بما ثبت به أمرها، تسبب عنه الجزم بالأمر فقال: {فاتقوا الله} أي أوجدوا الخو والحذر والتحرز من الذي اختص بالجلال والجمال، مبادرين إلى ذلك بتوحيده لتحرزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة {وأطيعون} أي في كل ما آمركم لتحرزوا رتبة الكمال في ذلك، فلا يمسكم عذاب.ولما أثبت أمانته، نفى تهمته فقال: {وما أسألكم عليه} أي على هذا الحال الذي أتيتكم به؛ وأشار إلى الإعراق في النفي بقوله: {من أجر} أي ليظن ظان أني جعلت الدعاء سببًا له؛ ثم أكد هذا النفي بقوله: {إن} أي ما {أجري} أي في دعائي لكم {إلا على رب العالمين} أي الذي دبر جميع الخلائق ورباهم.ولما انتفت التهمة، تسبب عن انتفائها أيضًا ما قدمه، فأعاده إعلامًا بالاهتمام بذلك زيادة في الشفقة عليهم وتأكيدًا له في قلوبهم تنبيهًا على أن الأمر في غاية العظمة لما يعلم من قلوبهم من شدة الجلافة فقال: {فاتقوا الله} أي الذي حاز جميع صفات العظمة {وأطيعون}.ولما قام الدليل على نصحه وأمانته، أجابوا بما ينظر إلى محض الدنيا كما أجاب من قال من أشراف العرب {ما لهذا الرسول} الآيات، وقال: لو طردت هؤلاء الضعفاء لرجونا أن نتبعك حتى نزل في ذلك {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} [الأنعام: 52] ونحوها من الآيات، بأن {قالوا} أي قومه، منكرين لاتباعه استنادًا إلى داء الكبر الذي ينشأ منه بطر الحق وغمط الناس- أي احتقارهم: {أنؤمن لك} أي لأجل قولك هذا وما أثبته أوصافك {و} الحال أنه قد {اتبعك الأرذلون} أي المؤخرون في الحال والمآل، والأحوال والأفعال، فيكون إيماننا بك سببًا لاستوائنا معهم، فلو طردتهم لم يكن لنا عذر في التخلف عنك، ولا مانع من اتباعك، فكان ما متعوا به من العرض الفاني مانعًا لهم عن السعادة الباقية، وأما الضعفاء فانكسار قلوبهم وخلوّها عن شاغل موجبٌ لإقبالها على الخير وقبولها له، لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم، وهكذا قالت قريش في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الرسل كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم كما قال هرقل في سؤاله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مثال المستكبرين مثال شخص كان آخر دونه بدرجة، فأصبح فوقه بدرجة، فأنف من أن يرتقي إلى درجته لئلا يساويه، ورضي لنفسه أن يكون دونه، فما اسخف عقله! وما أكثر جهله! فلا شيء أبين من هذا في أن التقدم في الأمور الدنيوية داء لا دواء له إلا إماتة النفس بالتبرؤ منه والبعد عنه.ولما كانت الجواهر متساوية في أنها مخلوقات الله، وإنما تتشرف بآثارها، فالآدمي إنما يشرف أو يرذل بحاله من قاله وفعاله، أشار إلى أنه يعتبر ما هم عليه الآن من الأحوال الرفيعة، والأوصاف البديعة، فلذلك {قال} نافيًا لعلمه بما قالوه في صورة استفهام إنكاري: {وما} أي وأيّ شيء {علمي بما كانوا يعملون} أي قبل أن يتبعوني، أي وما لي وللبحث عن ذلك، إنما لي ظاهرهم الآن وهو خير ظاهر، فهم الأشرفون وإن كانوا أفقر الناس وأخسّهم نسبًا، فإن الغني غني الدين، والنسب نسب التقوى؛ ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله: {إن} أي ما {حسابهم} أي في الماضي والآتي {إلا على ربي} المحسن إليّ باتباعهم لي ليكون لي مثل أجرهم، المخفف عني أن يكلفني بحاسبهم وتعرف بواطنهم، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها {لو تشعرون} أي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط، ولا نظر له إلى يوم الحساب.ولما أفهم قوله رد ما أفهمه قولهم من طردهم، صرح به في قوله: {وما} أي ولست {أنا بطارد المؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم وصفًا راسخًا فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من اتباع شهواتكم؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما {أنا إلا نذير} أي محذر، لا وكيل مناقش على البواطن، ولا متعنت على الاتباع {مبين} أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبسًا.ولما أياسهم مما أرادوا من طرد أتباعه لما أوهموا من اتباعه لو طردهم خداعًا، أقبلوا على التهديد، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: {قالوا لئن لم تنته} ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب فقالوا: {يا نوح لتكونن من المرجومين} أي المقتولين، ولا ينفعك أتباعك هؤلاء الضعفاء.ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبرًا عنه جوابًا لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك: {قال} شاكيًا إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهابًا إليه وتهييجًا، معرضًا عن تهديدهم له صبرًا واحتسابًا، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه: {رب} أي أيها المحسن إليّ.ولما كان الحال مقتضيًا لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلامًا بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال: {إن قومي كذبون} أي فلا نية لهم في اتباعي {فافتح} أي احكم {بيني وبينهم فتحًا} أي حكمًا يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم {ونجني ومن معي} أي في الدين {من المؤمنين} مما تعذب به الكافرين.ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال: {فأنجيناه ومن معه} أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم {في الفلك} ولما كانت سلامة المملوء جدًا أغرب قال: {المشحون} أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم.ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد- ومظهر العظمة فقال: {ثم أغرقنا بعد} أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه {الباقين} أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيرًا.ولما كان ذلك أمرًا باهرًا، عظمه بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك {لآية} أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي أكثر العالمين بذلك {مؤمنين} وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق {وإن ربك} المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك، وتعظيم أشياعك {لهو العزيز} أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية {الرحيم} أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي. اهـ.
قوله تعالى: {فَافْتَحْ بَيْنِي وِبَيْنَهُمْ فَتْحًا} قال قتادة والسدي: معنا واقض بيني وبينهم قضاء، وهو أن ينجيه ومن معه من المؤمنين ويفرق الكافرين، ولم يدعُ نوح ربه عليه إلا بعد أن أعلمه، {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ} [هود: 36] فحينئذ دعا عليهم. اهـ.
|